
كان ريعان إرهاصات القرار الأهم في تاريخ الإعلام العمومي، وهو إنصاف ما يربوا على 1860 متعاونا في مؤسسات الإعلام العمومي واكتتابهم دفعة واحدة، قد بدأ غِبّ الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة عام 2024، حينما زار رئيس الجمهورية (المرشح) محمد ولد الشيخ الغزواني ذات مساء من مساءات الحملة، مقر إدارة اللجنة الاعلامية، ليلاحظ تجمعا لعشرات الأشخاص من متعاوني مؤسسات الإعلام العمومي، كانوا يهتفون مطالبين بإنصافهم وتسوية أوضاعهم، فعرج عليهم مستفسرا عن مظلمتهم، وأصغى استماعا وإنصاتا لأحاديثهم، وهم يبثون الشكوى بين يديه، ويبسطون له محنتهم التي عانوا منها سنين طويلة وعقودا مريرة، وشكلت اختلالا بنيويا كبيرا في أداء المؤسسات الإعلامية، وإجحافا بالعاملين فيها وبأسرهم.
كنت حاضرا للحديث الذي كان دُولة بين رئيس الجمهورية والمتعاونين الإعلاميين، بوصفي عضوا في اللجنة الإعلامية للحملة، وقد بدا لي من خلال تجاوب الرئيس مع المعنيين وتعليقه المتفاعل إيجابا وتعاطفا معهم، أن حديثهم لامس لديه شعورا بضرورة إنصافهم ورفع الجور عنهم، وأن الملف بدأ يبرح مكانه، لتنزاح بذلك غمة جُلّى، ويماط حيف جَلِي، في واحد من أعقد الملفات التي أرقت القائمين على الإعلام العمومي حقبا من الزمن، وانتظر المشمولون فيه بلهفة بالغة وتوق مفرط، لقاءَ يومهم هذا.
وليس من نافلة الكلام أو التخرص جزافا، القول إن ملف المتعاونين في الإعلام العمومي الذي عمر عقودا من الزمن، وتعاقبت أنظمة على حكم البلد دون حلحلته، وتوارثته إدارات عديدة لتلك المؤسسات، ما كان له أن يبارح مكانه قيد أنملة، لولا التدخل الصارم والحازم من رئيس الجمهورية، الذي غادر يومئذ تجمع المتعاوين أمام مقر اللجنة الإعلامية، وقد تأثر لمظلمتهم ووعد بالاستجابة لمناشداتهم.
والمُسَلّمة التي لا شية فيها، أن مؤسسات الإعلام العمومي تقوم على ركن ركين من المتعاونين الذين يقاسون الأمرين في خدمتها، وينهضون بجل أعباء مسؤولياتها، وينتشرون في كل أصقاع الوطن يخدمونها آناء الليل وأطراف النهار، لذلك فإن إنصافهم اليوم يشكل فتحا مبينا، وحلحلة لجبل من التيه والحيرة تتقاذفه مسؤوليات شتى، ولا قبل لأحد به، إلا صاحب القرار الأول في البلد، وقد كان لها فوعد حينها، ووفى ساعتها.
وتشكل حالة هذا الملف وما آل إليه من تسوية إيجابية، فرصة للتذكير ببعض نصيب عمال الإعلام العمومي من اللفتة الاجتماعية الكبرى التي ميزت الحقبة المنقضية من حكم رئيس الجمهورية على مختلف الصعد والمناحي.
فقد شكلت مظلمة العميد ماموني ولد المختار ـ الذي أفنى زهرة شبابه في خدمة إذاعة موريتانيا والوكالة الموريتانية للأنباء ـ أيقونة المظالم الإعلامية في البلد، ونموذجا سافرا لاحتقار القانون والدوس على الحقوق بطرا ورئاء الناس، حيث عصفت نزوة سياسة كاذبة خاطئة بجهده وتاريخيه المهني، وهو على مشارف التقاعد، فتم فصله من العمل نهائيا بدون أدنى حقوق، وحين لجأ إلى القضاء أملا في إنصافه ـ وطب نفسا إذا حكم القضاء ـ ألقيت الأحكام في سلال المهملات وضرب بها عرض الحائط ، بيد أنه عشية وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى مقاليد الحكم، كان ماموني ولد المختار في طليعة من شملتهم "حالة الإنصاف" التي استفاد منها عشرات من المظلومين وحَمَلة الأحكام القضائية المعطلة، وعلى غرار العميد ماموني، كان قرابة ثلاثين صحفيا في التلفزة الموريتانية يواجهون جورا وتعسفا شديدين، بعد أن نجحوا في مسابقة نظمتها التلفزة الموريتانية عام 2013، ورفضت الحكومة ساعتها اكتتابهم ، وقد حصل معظهم على أحكام قضائية لم يكن حظها من التعطيل بأقل من حظ حكم العميد ماموني، لو لا أن تداركتهم "حالة الإنصاف" التي شملت عميدهم بعد سنوات من الحيرة والقنوط، فتم انصافهم وصدر قرار باكتتابهم.
وخلال العقدين الماضيين، ناضل العمال الرسميون في المؤسسات الإعلامية، مطالبين بحقهم في زيادات للرواتب وبعض العلاوات التي أقرت سابقا لصالح عمال وموظفي الدولة وحرم منها موظفو الإعلام، لكنها مطالب لم تُلقِ لها الدولة بالا، ولم تلبها، أو تعيها أذن واعية، فكان حظهم خلال المؤمورية الأولى لرئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني أن شهدت مؤسساتهم ـ بتوجيه منه ـ جملة إصلاحات جذرية، في مقدمتها اعتماد نظام أساسي لكل مؤسسة، ينهي الاختلالات البنيوية فيها، ويؤدى إلى زيادات معتبرة في رواتب وعلاوات العمال تراوحت بين 60% و200%، وعلى سبلي المثال ـ لا الحصر ـ استفاد العمال الرسميون في التلفزة الموريتانية الذين يزيد عددهم قليلا عن 200 عامل، خلال المأمورية الأولى لرئيس الجمهورية من زيادة في كتلة الرواتب السنوية، ناهزت 380 مليون أوقية قديمة، كان نصيب بسطاء العمال وذوي التصنيف الضعيف، منها وافرا، فتضاعفت رواتب الكثيرين منهم، وأضيفت علاوات مجزية كان لها انعكاس إيجابي على أوضاعهم المادية وظروف عملهم.
واليوم ينضم اللاحقون من المتعاونين إلى السابقين من الموظفين، في الاستفادة من هذه المكاسب، لتبدأ مسطرة رواتبهم وعلاواتهم انطلاقا من الأنظمة الأساسية الجديدة للمؤسسات التي اعتمدت خلال السنوات الخمس الماضية، ويلتحقون بركب "حالة الإنصاف" التي انتشلت زملاءهم من قبل ـ كما الكثير من المواطنين ـ من براثين الظلم ومهاوي اليأس من العدالة وإحقاق الحق.
بقلم: محمد محمود أبو المعالي